٢٠١٠/٠٢/٠٥

وحي القبور




جلستُ في المقبرة ،
وأطرقتُ أفكرُ في هذا الموت .
يا عجبًا للناس !
كيف لا يستشعرونهُ وهو يهدِمُ من كلِّ حيٍّ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمهُ هو بجُملتِهِ ،
وما زال كل بنيانٍ من الناس بِهِ كالحائط المسلطِ عليهِ خرابُه ، يتأكّلُ من هنا ويتناثر من هناك ؟!

يا عجبًا للناس عجبًا لا ينتهي !
كيف يجعلون الحياة مدةُ نزاعٍ وهي مُدةُ عمل ، وكيف لا تبرح تنزو النوازي بهم في الخلافِ والباطل ،
وهم كلما تدافعوا بينهم قضيةٌ من النزاع فضربوا خصمًا بخصم وردوا كيدًا بكيد ،
جاء حُكمُ الموت تكذيبًا قاطعًا لكل من يقول لشيءٍ : هذا لي؟

أما –والله- إنه ليس أعجبُ في السخرية بهذه الدنيا من أن يُعطى الناسُ ما يملكونه فيها لإثبات أن أحدًا منهم لا يملك منها شيئًا ،
إذ يأتي الآتي إليها لحمًا وعظمًا ، ولا يرجعُ عنها الراجِعُ إلا لحمًا وعظمًا ،
وبينهما سفاهةُ العظمِ واللحمِ حتى على السكين القاطعة...

تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفِرُّ فِرارها ؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره .
ولقد كان ينبغي أن تُصحَّحَ أعمالُ الحياةِ في الناس على هذا الأصل البيَّن ،
لولا الطباع المدخولة والنفوس الغافلة ، والعقول الضعيفة ، والشهوات العارمة ؛
فإنه ما دام العمر مقبلاً مدبرًا في اعتبارٍ واحد ،

فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوبًا له ومحسوبًا عليه في وقتٍ معًا ؛
وتكون الحياة في حقيقتها ليست شيئًا إلا أن يكون الضميرُ الإنسانيُّ هو الحيَّ في الحي .


.....................

من كتاب وحي القلم , لشيخ الأدباء : مصطفى صادق الرافعي


هناك ٤ تعليقات:

  1. فليس للإنسان أن يتناول ما يرضيه محسوبا له أو محسوبا عليه
    الحقيقة كلمات أعجز عن التعليق عليها...ربنا يرحمنا ويسترنا وينجينا من الدنيا على خير

    ردحذف
  2. فى كل يوم أقول
    باكر اشد الهمة
    وإصلح ما غفلت عنه
    وياتى باكر ولا أصُلح
    شيئاً بل ربما إزداد إمرى
    سوءاً.اللهم ايقظنا لتدارك
    باقى الأعمــــار.كلمات موجعة
    وموحية وإختيار موفق ياتيمى.

    ردحذف
  3. يا اخي ربنا يجازيك كل خير
    و ان شاء الله احاول اتواصل معاك
    و ربنا ينفع بينا و ينفعنا
    تقبل مروري

    ردحذف
  4. كلمات فى غاية الروعة ، تمس قلب كل إنسان

    شكراً

    ردحذف

الدرر السنية - البحث في الأحاديث



بحث عن: